ألقت الثورة المصرية الكثير من زجاجات المولتوف الحارقة على خطوط المواجهات بين قوات الأمن والثوار على مدار أكثر من عامين- أشتدت فيهما المواجهات تارة وهدأت تارة أخرى. فالصراع على نمط السلطة وتجلياتها في أشكال الممارسة ما يزال قائماً حتى هذه اللحظة. والقطيعة مع النظام السابق صارت تتمحور حول تلك النقطة، وهى مفترق الطرق بين الانعتاق والعبودية للدولة والنظام السياسي الحاكم والهوس الأمني. والقطعية والمفارقة مع المنظومة الأمنية لا تتمثل مع الدولة والنظام السياسي فقط. ولكنها مع خطوط متشابكة تتقاطع بين الدولة والمجتمع والنظام الأقتصادي والقائمين عليه، وبين المحلي والأقليمي والدولي. وحركة وأفعال الثورة تعكس هذه المحاولة وتوضح خطوط الأشتباك بين الثورة والنظام القديم/الحالي. فخطاب الثورة كان أعظم أشتباكاته الفكرية في محاولته لتفكيك ثنائية الأمن مقابل الفوضى. وهذه الثنائية لم تكن فقط في خطاب مبارك ولكن في خطاب قطاعات واسعة من المجتمع أمتدت بين طبقات وشرائح أجتماعية مختلفة؛ فمن الرأسمالية والبرجوازية إلي كبار وصغار التجار والحرفيين وحتى بعض القطاعات المهمشة. فخطاب الثورة المضادة كان يعمل على إثارة عوامل الفزع والخوف في المجتمع. وجائت ذروته مع وعود شفيق بعودة الأمن في أقل من 24 ساعة في حالة فوزه بمنصب رئيس الجمهورية.
ويعني مصطلح الأمننة، طبقاً لكثير من العلماء والمختصين في مجال الدراسات الأمنية، تحويل أي خطاب سياسي أو أجتماعي أو أقتصادي إلي خطاب أمني في المقام الأول. حيث تسيطر مفردات الخوف على عملية إنتاج الخطاب والحلول التي يطرحها. فالثنائية الجامدة التي يخلقها الخطاب الأمني وأمننة المجتمع تقتل المساحات ولا تسمح بالاختلاف والتنوع في الفكر والممارسة. وتضع المجتمع في أشد حالات المراقبة وتحوله إلي سجن كبير على أفراده الانضباط والطاعة على طريقة ورغبة السلطة. بل الأسوء من ذلك هو خلق المجتمع بنفسه لثنائيات تجعله يتمحور حول الخوف ويبدأ في استبطان نفس مكينزمات السلطة وأدواتها.
ويبدو لي أن مؤسسات الدولة المصرية تتمع بقدر من الأستقلال كمنظومات تابعة لها منطقها الذاتي بعيداً عن رغبات الملك (سواء كان مبارك أو المجلس العسكري أو حتى دكتور محمد مرسي). ولذلك فما ظنه الكثيرون من أن قطع رأس الملك سيعني بالضرورة إنعتاق تلك المؤسسات وتصحيح مسارتها بشكل ذاتي أثبت فشلاً كبيراً وبالأخص في النهج والخطاب الأمني الصادر عنها. أضف إلي ذلك أن أمننة المجتمع ليست مجرد إنعكاس للدولة والسلطة والخطاب الناتج عنهم. فهناك أحياناً خطوط وحالات من التقطاع وأخرى من التماهي. فتعامل الداخلية مع اعتصامي جامعة النيل وسائقي النقل العام لم يختلف كثيراً لا على مستوى الممارسة ولا الخطاب. فنفس النهج الأمني الذي يتعامل مع الأمور السياسية بمنطق التهديد ثم اللجوء للعنف هو ما حدث في ظل حكومة منتخبة جائت بعد ثورة شعبية. وهو أيضاً نفس الخطاب الذي يخون المعتصمين والمتظاهرين ويتهمهم بمحاولة هدم الدولة والمساس بهيبتها وأشاعة الفوضى. بل الأخطر من كلا الأمرين هو تعامل السلطة الحاكمة مع قضية سيناء. فالسلطة حتى الآن لم تلجأ حقيقة –رغم مزاعم بدء حوار مع آهالي سيناء- إلا للحلول الأمنية. فما يحدث في سيناء هو قصف عسكري يطال الجميع وحملات أمنية وكمائن مكثفة تنتهك من حرمة المواطنين وأجسادهم، وتعامل فيه قدر كبير من الأذلال وخطاب به قدر كبير من التخوين. ونفس الممارسات والخطاب في عهد مبارك كانوا أحد أهم أسباب أشتعال الثورة في سيناء إلي حد وصولها إلي ثورة مسلحة في الشيخ زويد. حيث دارت معاركها العنيفة من مساء الخامس والعشرين من يناير حتى صباح التاسع والعشرين من نفس الشهر.
وتعبر الجدران العازلة المحيطة بوزارة الداخلية والسفارة الأمريكية مؤخراً عن تجلي الخطاب الأمني في الممارسات وإدارة المساحات، وعن غلبة نمط السلطة الأمنية المعسكرة في الدولة. فالسلطة الأمنية تتمحور حول الأرهاب وأمكانية ممارسة العنف والعزل والأقصاء. وصارت تلك السلطة وخطابها في مواجهة مفتوحة ودائمة مع الثورة كفعل وخطاب. وتعكس الجدران ورسومات الجرافيتي عليها الفرق بين الأثنين. فالأولى تسعى لاستتباب الأمن ولو على حساب قتل المساحة وحرية الحركة. وتلجأ لمعداتها الثقيلة من كتل وبولكات حجرية كحواجز عازلة. وهى في ذلك ترسخ الشعور بالخوف والا أمن. أما رسومات الثورة فكانت أغلبها عبارة عن رسم بقية الشارع المغلق وكأن الجدران ليست واقعة. والجرافيتي عليها كان يتسم بالخضرة وآلوان قوس قزح وأطفال يمرحون في الشارع الذي غلقه الجدار العازل. وعلى كل فالجدران وما عليها من رسومات كانا نتاج معارك حامية الوطيس بين الثورة وقوات الأمن أمتدت لخلف تلك الشوارع المغلقة الآن.
والخطاب الأمني مثلما يؤكد ميكل ديلون "يعيد إنتاج الفزع والخوف" ؛ فالأمن والإرهاب يسيران يدا بيد ولا ينفك أحداهما عن الآخر. ويزيد الخطاب الأمني من وطئة الشعور بفقدان الأمان. ووعود الأمن هي دائما وعود مستقبلية وهي أيضا مرهونة بمدي التطور والتقدم التقني للجريمة والإرهاب وتفاعلهما مع العنصر البشري. وهذا خليط لا يمكن التوقع بأبعاده وتداعياته. والنظم الأمنية السلطوية تستمد شرعيتها من الخطر وإعادة إنتاجه. حيث يتحول الخطر إلي أداة حكم وهيمنة تستطيع تلك النظم من خلالها أن تفرض حالة الأستثناء عبر جهاز الدولة. ولقد تحولت حالة الأستثناء في مصر إلي حالة دائمة تحت مسمى الأمن والأستقرار. وفي ظل قوانين وظروف الطورايء يسهل للسطة الحاكمة قمع أي نوع من المعارضة وإضاعف فرص تكوين مجتمع مدني قوي، حيث لا تسمح السلطة بتكوين كيانات ومؤسسات شعبية وجماهيرية. وتنعكس تداعيات الأمننة على المعمار وهيكلة المجتمع وهندسة المساحات به. وتتحكم في رؤيته للذات والآخر. وتعدو خطورة تبني الدولة والمجتمع للنهج الأمني في خلقه لأفراد وجماعات عرضة للإشتباه، وحتمية الخضوع للممارسات الأمنية المتوحشة. فجورجو أجمبين يشير إلي عمليات تقليص المواطنة حيث تحرم جماعات من حق التحدث والتعبير وتحرم من الحقوق بل تحرم من تاريخها. وهو الأمر الذي رأيناه في تعامل السلطة والمجتمع والاعلام مع آهالي سيناء. ومن الجدير بالذكر أن نظام مبارك كان يمنع آهالي سيوة من الأحتفال بلغتهم الأمازيغية. فأحد شيوخ القبائل بسيوة، ذكر لي كيف منع جهاز أمن الدولة أحد مشاريع تدوين وتوثيق اللغة الأمازيغية. وهناك الكثير مما يمكن أن يقال ولكن لا يحتمله المقال عن شعور آهالي النوبة بأقصى درجات التهميش وسوء المعاملة من قبل جهاز الدولة والسلطة.
وهناك ثلاثة تحركات، تمحور حولهم الفعل الثوري، شهدوا ومازلوا يشهدون صدامات عنيفة بين قوات الأمن والثوار والمحتجين بشكل عام وهما: الأول: إعادة أسترداد المجال والفضاء العام من سطوة الأمن. وعبر عن هذا الفعل والمستوى من التفاعل الصدام الدائم مع قوات الأمن حول احتلال الميادين العامة وأبرزهم ميدان التحرير. والثاني حرق الأقسام. فلقد تم حرق ما يزيد عن ألف قسم على عموم الجمهورية. والثالث هو الأضرابات العمالية والتي تشهد صدامات شديدة ودورية مع قوات الأمن منذ عام 2006. وكان أعنفها قبل الثورة في إضراب عمال غزل المحلة الذي أنتهى بحرب بين المدينة وقوات الأمن. إلا أن الأمر الأخطر هو ردة فعل المجتمع والاعلام على تلك الأحداث. فلقد أدانت قنوات وبرامج أعلامية مثل القاهرة اليوم ذلك الحدث وصورته على أنه نشر للفوضى والرعب في المجتمع. وكذلك أدانت كثير من الشرئح تلك الأضرابات ووصفتها قبل وبعض الثورة أنها تعطيل لعجلة الأنتاج وتتسبب في غياب الأمن وتهدد هيبة الدولة.
ولكي نفهم كيف تم أمننة خطاب السلطة في المجتمع المصري والثورة كممارسة وفعل وخطاب مضاد، يجب علينا الرجوع لملابسات ميلاد نظام وعصر مبارك على المستويين السياسي والأجتماعي. فالميلاد كان حادث المنصة. هكذا ولد نظام مبارك من رحم اختبائه تحت كرسيه والسادات يلفظ أنفاسه الأخيرة. لقد كان السياق التاريخي لميلاد نظام مبارك راسماً إلي حد كبير ملامح نظامه وقصته الكبرى وخطاب عصر ومجتمع منذ الميلاد وحتى لحظة كتابة هذه السطور مسيطر عليه الأمن. فالبداية كانت مليئة بالدم والاضطراب الداخلي ونظام إقليمي في حالة عدم استقرار وإعادة صياغة لعلاقات القوة به، ونظام عالمي يعاد تشكيله كانت المنطقة العربية هي مسرح عملياته الأول. أضف إلي هذا إتفاقية سلام مع إسرائيل كانت لم تستكمل كلياً بعد. ويرفضها قطاع واسع من المجتمع المصري والعربي، ومحاولة إعادة تعريف للعدو الخارجي، هذا مع تغير كبير للبنية الاجتماعية والاقتصادية؛ حيث يتم ربط النظام الاقتصادي لمصر بالرأسمالية العالمية من خلال سياسات الانفتاح التي تبناها السادات وصار مبارك على خطاه. فشرعية هذا النظام داخلياً وخارجياً تأسست على ثنائية الأمن والفوضى. وتلاحم خطابه الداخلي والأقليمي مع النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في العشر سنوات الأخيرة من عمره. حيث ساد الساحة الدولية هوس أمني واسع النطاق وخطاب مضاد لإرهاب غير معرف بعيداً عن كونه إسلامي ومنبعه المنطقة العربية.
ومن البداية طرح مبارك نفسه على الساحة الخارجية كعامل أستقرار للمنطقة على المستويين الجيو-سياسي والأقتصادي. فكان نظامه داعم لإسرائيل وسياسات البنك الدولي والسوق العالمي، وقامع داخلي لكل القوى المعادية للهيمنة الأمريكية والأحتلال الصهيوني. وتعامل خطاب مبارك مع الأنتفاضة في 2000 وحربي 2006 في لبنان و2008 في غزة بشكل أمني يؤكد على قدر الفزع وعدم الأستقرار الذان يتسبب فيهما حزب الله وحماس. وشيطن الخطاب الحركتين من خلال التلاعب بفزاعة الأمن وأفصح الخطاب عن أقصى درجاته في الممارسة من خلال قمع جميع المظاهرات الداخلية وغلق المعابر في رفح، وفي البضع سنين الأخيرة قام بتصدير خطاب أعلامي يعمل على خلق حالة من الفزع تحت وهم أن الغزاوية سيقوما بالسيطرة على سيناء تدريجياً إن فتح الطريق أمامهم. الغريب في الأمر أن الخوف من سيطرة حماس وآهالي غزة على سيناء مازال قائم حتى اليوم. فقلد أثار الأعلام المصري ضجة كبيرة حول خطر بيع الأراضي في سيناء لآهالي غزة دون دليل واضح. وأنتجت وتلقفت قطاعات واسعة من المجتمع هذا الخطاب وأعادة إنتاجه. وهو أمر يعكس أمننة الخطاب الأجتماعي وتناقضه.
فالتعامل مع القضية الفلسطنية صار مقبولاً فقط في نطاق البكاء والنعيل. وهو أمر أفصح عن نفسه بالكلية في أحداث أقتحام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة بعد الثورة. ويرجع ذلك الخطاب لأمرين. الأول تصدير صورة إعلامية من قبل السلطة الحاكمة وأصحاب المصالح تعمل على خلق وعي وتصورات معادية لأي عمل ثوري من شأنه تغير ترتيب وأوضاع المنطقة في ظل اتفاقية كامب دافيد. والثاني هو أرتباط شرائح كثيرة بعلاقات أقتصادية مع إسرائيل بسبب أتفاقية الكويز التجارية. ومن هنا ينتج أي فعل ثوري أو سياسي مفارق للسياسات الأقتصادية والأجتماعية والجيو-سياسية في المنطقة خطاب أمني مضاد من الدولة وبعض شرائح المجتمع. وبهذا يتضح كيف يتم أمننة الخطاب على المستوى المحلي والأقليمي والدولي، وكيف تلعب شبكات السلطة والمصالح المختلفة من خلال الاعلام وأرض الواقع على إنتاج خطاب يتمحور حول الفزع والفوضى ويغزي شعور الخطر المجتمعي.
وحتى على مستوى السياسات الخارجية الأخرى مثل العلاقات مع دول حوض النيل أتسمت سياسات النظام بالطابع الأمني فقط. فلم تدعم مصر تواجدها الأستراتيجي من الناحية الأقتصادية والثقافية والسياسية في العمق الأفريقي بقدر تلويحها الدائم بإمكانية استخدام الآلة العسكرية في حالة أشتداد النزاع. ولقد تحركت الثورة المصرية منذ البداية لتغير هذا النمط الأمني في علاقات مصر الخارجية. فخرجت المليونات لتنصر القضية الفلسطنية وتعترض بشكل صريح على سياسات الأنبطاح لأمريكا وإسرائيل. ثم تمت اكثر من محاولة لاقتحام مبنى السفارة الإسرائيلية في القاهرة ونتج عنها أشتباكات دموية مع قوات الأمن. وأيضاً شهدنا ما سمى ببعثات الدبلوماسية الشعبية والرسمية لدول حوض النيل في محاولة لإعادة صياغة العلاقت على أسس تتجاوز البعد الأمني.
وفي الداخل مثل مبارك الأب الذي يحمي العائلة من شرور الخارج بل ومن شرور أبنائها. وقادت حربه على الأرهاب في التسعينيات إلي توغل الداخلية وأطلاق يدها في وعلى المجتمع. وبعد أنتصارها صارت الزراع اليمنى للنظام. ومن هنا صارت أقسام الشرطة وجهاز أمن الدولة هما ممثلان النظام السياسي والعام. وأسس قانون الطواريء لوضع فوق الأستثنائي لقوات الشرطة في المجتمع. فأقسام البوليس لعبت دوراً مهماً كممثل لسلطة الدولة والنظام السياسي في المرحلة من 81 إلي 2000 ثم ممثل لدولة والنظام النيو ليبرالي من 2000 حتى اليوم. فهى كممثل للدولة تلعب دور برج المراقبة الذي يفرض الأنضباط على المجتمع ويحتكر الحق الشرعي في ممارسة العنف.
وبسبب طبيعة الحرب على الأرهاب التي كانت تدور في الخطوط الأممامية والخلفية للمجتمع، أضطرت الداخلية لتوسيع رقعة الأشتباه ونطاق المعركة. وتسبب ذلك في تضخيم حجم المخبرين والمرشدين الذين لعبوا دوراً مزدوجاً مما ضاعف تأثير السلطة ووطأتها على المجتمع. فهما ممثلان لسلطة المؤسسة حيث تتجسد فيهم. وأدي أيضاً إطلاق يدهم في المجتمع لتغول سلطتهم الشخصية في إدارة مصالحهم الأجتماعية والأقتصادية. ومع توحش الجهاز الشرطي ككل وهيمنة سلطته على الدولة والمجتمع صارت قوات الأمن بشكلها الرسمي والمؤسسي والغير رسمي والا مؤسسي أحد أهم عناصر إنتاج الفزع في المجتمع. وبات كل من جهاز أمن الدولة وقوات الأمن المركزي أحد أهم عناصر الأرهاب السياسي والمجتمعي. فأمن الدولة أصبح لها الحق في مراقبة جميع أركان المجتمع وتسيطر على كافة مؤسساته الرسمية من تعينات وإدارة. فصارت تتدخل في تعيين عمداء الجامعات إلي النقابات المهنية، ومن التدخل والسيطرة على المجتمع المدني إلي هيمنتها على الأنتاج الفكري والفني. وكان الأمن المركزي يتم الدفع به في أي مظاهرة أو علمية إحتجاجية. واعتاد أن يقوم بعملية عسكرة وإرهاب لمسرح الأحداث وممارسة أقصى درجات العنف
والوحشية على مئات وأحياناً عشرات المتظاهرين.
وتشير تقارير حقوق الأنسان المختلفة إلي تغير خطير في النهج الأمني من بعد الألفية الجديدة. ففي التسعينات كان التعذيب يستهدف بعض الجماعات الأسلامية بعينها وبعض المعارضين الرادكالين للنظام داخل أقبعة المعتقلات وأمن الدولة. إلا أن ظاهرة التعذيب والعنف العام على المجتمع بدأت في التفشي بعد عام 2000. وتصاعدت حدتها في الأعوام التي تلت 2005 وصولاً لمقتل خالد سعيد في شارع عام في 2010. وعلى الرغم من توحش وتوغل الجهاز الأمني، تصاعدت ظاهرة البلطجة المنظمة والعشوائية وغاب الأنضباط العام عن الشارع المصري. واستخدمت البلطجة كأداة من أدوات الحكم والسيطرة من قل النظام وأعوانه.
وكان اول مراحل ظهورها بشكل ممنهج في انتخابات عام 2000 وأشتدت في إنتخابات 2005 و2010. ولا يمكن فصل هذا عن التحول الكبير إلي النيو ليبرالية وحكم رجال الأعمال بقيادة جمال مبارك منذ عام 2000. فالنيو ليبرالية قائمة على ذراعين: أمني واقتصادي. وكلاهما قائم على خطاب أمني وأنتاج للفزع. وتستخدم النيو ليبرالية الأمن الخاص المتمثل في شركات التأمين أو جماعات بلطجة منظمة بالإضافة إلي الداخلية. ويقوم الزراع الثاني بأنتاج نوعين من الخطاب حول المدينة والعمل وكلاهما يتم أمننته. فالأول يتصور سكان المدينة من الفقراء كعبء وخطر على المدينة يجب التخلص منه. ويتجلى هذا في الخطاب حول العشوائيات والأحياء الفقيرة، وبالأخص في حالة طمع بعض رجال الأعمال في تلك المناطق مثلما هو الحال مع رملة بولاق أحد الأحياء ذات الطابع العشوائي بالقاهرة. ويقع ذلك الحي على كورنيش النيل ويطمح رجل الأعمال الشهير سويرس بتحويل المنطقة إلي فنادق وأماكن سياحية ومكاتب خدمية.
ويعمل هذا الخطاب على عزل الفضائات الاجتماعية المختلفة عن بعض في المجال العام ويجعلها تقتصر على علاقات عمل وأخضاع وخدمة. ويتجلى هذا في فكرة المجتمعات الجديدة المسيجة ويتجلى فيما يسمى بمعمار الحصن وغلبة الهوس الأمني على هيكلة المدينة. وهناك محاولة دائمة في ما يسمى بجتمع السيطرة القائم على النيو ليبرالية لتخصيص المجال العام وتقسيمه. ووقعت اشتباكات عديدة بين قوات الأمن وبلطجية مأجورين في جانب ضد آهالي تلك المناطق في الجانب الآخر. فرملة بولاق ليست حادث شاذ أو فريد من نوعه. فوقعت أحداث مشابهة كثيرة. منها على سبيل المثال لا الحصر ما وقع مع آهالي منطقتي المفروزة وطوسون بالإسكندرية، حينما قامت قوات الأمن باجتياح تلك الأحياء وهدم منازل السكان لصالح مشاريع استثمارية، بعدما رفض الآهالي ترك أراضيهم مقابل مبالغ ضعيفة. وولدت السلطة في كل تلك الحالات خطاب شيطنة لآهالي تلك المنطق يؤكد على ضرورة التخلص منهم لصالح نهضة المدينة وأمنها. ويستند خطاب السلطة في بعض الأحيان لوقائع حقيقية. فبعض المناطق العشوائية بها نقاط إجرام وبلطجة منظمة. وتعاني أغلب تلك المناطق من غياب خدمات رئيسية مثل الكهرباء والصرف الصحي. إلا أن خطاب السلطة يتم أمننته فلا يتعامل مع أي أبعاد أخرى. ومنهجيته الأولى في الخطاب هى الشيطنة وفي الممارسة العنف والقضاء على تلك المناطق كلية. وحتى مع تحلل جهاز الدولة لصالح النهج النيو ليبرالي. والزراع الأول هو عماد النيو ليبرالية في استقرار الأوضاع. فالأمن العام المتمثل في جهاز الداخلية يصير حائل دون تغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للجماهير. وتظل السلطة تلوح بهذا الزراع لمنع حتى التفكير في التغير وتظل تضخم من حجم هذا الجهاز وامكانيته في البطش والقمع. فنظام مبارك ظل يلوح ويشير أن عدد قوات الأمن المركزي قد وصل لقرابة الأثنين مليون. وهو رقم يبدو فيه قدر من المبالغة. ولكن المهم هو ليس حقيقة الرقم من عدمها. ولكن توظيفه في خطبي أمني أخضاعي. وعلى الرغم من تحلل جهاز الدولة ورخاوته في العهد النيو ليبرالي ظلت أقسام الشرطة محتفظة بدور مهم في المجتمع. فهى لم تصير فقط أحد أبراج المراقبة واستخدام العنف ولكن تحولت أيضاً لنقطة أرتكاز وتلاقي لعلاقات السلطة في المجتمع. وصار القسم هو مركز لإدارة العمليات الاقتصادية في منطقته محافظاً على هيمنة وسطوة رجال الأعمال والترتيب الاجتماعي بها. وهكذا يمكن فهم لماذا حرقت الكثير من الجماهير الثائرة أقسام الشرطة واقتحمت مقار جهاز أمن الدولة، ولماذا شهدت الثورة –ومازالت تشهد- صدامات موسعة مع قوات الأمني المركزي والداخلية بشكل موسع سواء في الميادين أو الأضرابات والاحتجاجات الاجتماعية والعمالية.
إن أهم مهمات الثورة المصرية وأكثرها استعجلاً هي تفكيك النزعة الأمنية للسطة وتفكيك أمننة الخطاب واسقاط شرعيته. وينبغي على الثورة إنتزاع مكونات الخطاب الأمني من البنية العقلية للمواطن. إن النظم والمؤسسات في حقيقة الأمر لا تعمل في الخارج؛ فوجودها الحقيقي داخل الأذهان. فربما تتواجد بعض المؤسسات في الواقع ولكنها ما لم تمد جذورها وتواجدها داخل بينتنا العقلية فوجودها لا يصبح أكثر من مبنى. وهناك مؤسسات أخرى هى أكثر من مباني وجدارن. وهذا لأنها تعمل دوماً في مخيلتنا العقلية وتسيطر عليها بل أحيناً كثيرة تتحكم في إنتاجنا للمعرفة ونوعيتها. وبهذا يتضاعف تواجدها مرتين، وربما لا تحتاج أن تقوم بكل العمل لأن الكثير منه يتم من خلالنا نحن عن طريق قرين المؤسسة في عقولنا. إننا في أمس الحاجة للإنعتاق من الهيمنة الأمنية إذا أردنا المضي قدوماً في مشاريع إنعتاقية كبرى والتحرر من قيود الخوف والفزع. فكيف يمكننا تصور نهضة علمية ومعرفية على مستوى العمل الأكاديمي والتقني إذاأستمرت الأجهزة الأمنية في اختيار أساتذة الجامعات والوزراء وظلت تلاحق الأقلام؟
إن أبطال المشهد، الأمن المركزي وأمن الدولة/الأمن الوطني والمخبر والاعلام ورجل الأعمال، كما هم والمخرج هو نفسه مخرج المشهد السابق ولكن بوجوه كثيرة. وبالتالي من الصعب توقع أو انتظار أداء ومشاهد وعروض جديدة غير تلك العروض الأمنية التي يتسيدها عروض طلقات النيران والدم والمتاريس والخوف. وهم يحاولون بكل إستماتة إبقاء المجتمع على مكان عليه والحفاظ على نفس شبكات القوى
والسلطة كما هى، وإعادة ترسيخ بنية الدولة القمعية.
ولكن المجتمع القديم يحتضر وربما يزداد عنفه في لحظاته الأخيرة. ولا أرى أي إمكانية لإنقاذه إلا الحرب ويجب أن تكون حرب ذات ظلال كثيفة وثقيلة على المجتمع لا أحداث ومناواشات عسكرية مثل التي تحدث في سيناء ولم تستطع إلهاء الثورة وتحيدها عن مسار الحرية. فالحرب هى الشيء الوحيد القادر على تجيش كل القوى الإجتماعية وراء السلطة وإعادة ترتيب علاقات القوة الإجتماعية كما كانت وعندها يكون خطاب التخوين والثنائيات الجامدة ذات جدوى مرة أخرى. وسنحتاج بعض الوقت لسحق مؤسساته بالكلية ثم محو ظله وأطيافه وبقاياه في بنيتنا العقلية والثقافية. علينا أن نعلن موت هذا المجتمع الآن حتى نستطيع بلورة الرؤية البديلة في السنوات القادمة.